يتساءل المسلمون اليوم لماذا ندعو فلا يستجاب لنا؟ ولماذا نتأخر بينما الآخرون يتقدمون؟ ولماذا يرى المسلمون أن الله تعالى وسّع على الكافرين والعاصين بالرزق وضيّق على الملتزمين؟ أسئلة كثيرة متعددة تدور في أذهان الناس ويبدو لهم أنها غير عادلة فهل هذا عدم اتزان منطقي؟
وفي البداية نتأمل قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) محمد) فالنصر والتمكين من عند الله تعالى فهل نحن لم نُنصر لأننا لم ننصر الله تعالى؟
في الحقيقة هذا موضوع من أدق الموضوعات التي يجب فيها الانسان بِحرص حتى لا تخرج النفس علينا بمثل هذه الأسئلة وحتى نكون واضحين نحن لم نتربّى في منطقة الشرق على الاجتراء على هذه الأمور وقطع النفس على هذه الأسئلة والناس تتصور أن كل ما يحصل فهو من الشيطان علماً أن الشيطان ليس له منفذ إلا على النفوس العاصية. والله تعالى عندما حاور الشيطان اعترف الشيطان أنه ليس له تأثيرعلى عباد الله تعالى الصالحين (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) الحجر) كأنه يعترف أنه لن يقدر على أصحاب النفوس الطائعة وجاء الرد من الله تعالى (قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) الحجر) والمشكلة أن هذه الآية لا تُشرح للناس جيداً فالناس يقولون أن الشيطان شاطر ووسوس لنا وهكذا لكن القرآن الكريم يقول (كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) النساء) ويقول في النساء (قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يوسف) فالنساء أقوى من الشيطان لكن النفس البشرية عندها استعداد لتطيع الشيطان ولو كانت النفس طائعة لله تعالى لعصت الشيطان ولو كانت عاصية لأطاعت الشيطان.
البعض يقول أنه وهو في الصلاة تأتيه وسوسة بأنه لا وجود لله تعالى أو أن يشتم الله تعالى والعياذ بالله وعلينا أن نكون صُرحاء فالمشكلة أن الشباب لديهم أسئلة كثيرة لا يجدون لها جواباً عند العلماء وهذا لأننا لم نتعود إيجاد الاجابات لأسئلة عديدة من هذا النوع وإنما نكتفي بإقفال الموضوع وعدم الخوض فيه ولو أننا وضعنا إجابات لهذه الأسئلة بحيث يتمكن الشباب من العودة إليها دون أن تترك الأمور للنفس البشرية. وقلنا سابقاً أن النفس في القرآن الكريم جاءت في ثلاثة أنواع : النفس اللوامة (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) القيامة) والنفس الأمارة بالسوء (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) يوسف) والنفس المطمئنة (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) الفجر) وتقييد النفس هو أن تصبح لوّامة وهناك تدرج في هذه النفس اللوامة فمنها ما يلوم صاحبها مرة في العام أو مرة في الشهر أو مرة في اليوم أو مرة كل ثانية.
وللأسف البعض يظن أنه يفعل ما يشاء ثم يذهب إلى الحج حتى يغفر الله تعالى له ذنوبه ولا يذهب إلى الحج لأنه فريضة وإنما طمعاً في مغفرة الذنوب وحج البيت حق لله تعالى والرسول r وضّح هذه الأمور وللأسف يذهب البعض للحج وفي نيته مسبقاً أن أن الله سيغفر له ما تقدّم من ذنبه ثم يعود فيعمل ما يشاء ثم يحج وكأنه ضامن لعمره وضامن أن لا يموت وهو على المعصية.
ما الفرق بين الله والرب والعباد والعبيد وما الفرق بين الألوهية والربوبية والعبودية وما العلاقة بينهم وكيف نفرّق بينهم؟
الناس لا تعلم أن الفلسفة والمنطق القديم كان قبل الاسلام لكن بعد الاسلام وبعد استقرار الاوضاع انتهى المنطق القديم واليوم إذا كان سيكون هناك فلسفة فيجب أن تكون بمنطق اسلامي. في مسألة العبودية يجب أن أسأل أنا عبد لمن؟ وأسأل ما هو أول اسم لله ذُكر في القرآن؟ كلمة (ربك) في قوله تعالى اقرأ باسم ربك الذي خلق فهي أول كلمة جاءتنا نحن المسلمين. ولقد سبق وأوضحنا الفرق بين القرآن والكتاب وهذا الفرق يظهر في قوله تعالى (إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) الواقعة) وقوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) القدر) قلنا أن الضمير في أنزلناه يعود على الكتاب الذي نزل بالترتيب الذي بين أيدينا الآن نزل إلى السماء الدنيا ثم نزل قرآنا منجّماً طبقاً للأحداث. وقلنا لماذا قال تعالى (الذي خلق) فكأن الله تعالى يريد أن يقول لرسوله r أن الذي خلق من عدم قادر على أن يُقرئك من غير كتابة ولأن الخالق هو الله تعالى. عطاء الألوهية هو الخلق وعطاء الربوبية هو كل ما تبقّى لأنه الإله الحق وحتى أقول إن الله ربي يجب أن أكون موجوداً فوجودي هو عطاء الألوهية خلقني من غير حول مني ولا قوة وليس لي في خلقي اختيار لا أنا ول ذريتي ولا أصولي إلى آدم u. وعندما يقول تعالى (اقرأ باسم ربك الذي خلق) تكون كلمة الرب جاء ت أولاً لكن الاعجاز في الكتاب أن أول اسم جاء فيه هو الله (بسم الله الرحمن الرحيم) فالربّ الذي خلق هو الله وحتى لا يتسرب لنفس أي مسلم أن الرب الذي خلق هو غير الله فقال تعالى (إقرأ باسم ربك) لكن عندما قرأ محمد r قرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين فجاءت كلمة الله أولاً ثم كلمة الرب بعد الإله. ففي ترتيب النزول جاءت كلمة الرب أولاً لكن عندما نوقّع القرآن في قلوبنا نفهم أن الله سابق على الربوبية ثم اختار تعالى الحمد لله رب العالمين وكررها كأني بالله تعالى يقول أنا الله فخلقتك من حيث لا حول لك ولا قوة ثم أعطيتك النعم كلها باختلافها فأنا رب العالمين عصيتَ فسترتك لأني الرحمن ثم تُبتَ إليّ فأنا الرحيم وهذا الترتيب يعطينا من هو الله تعالى.
وفي القرآن الكريم آية يغفل عنها الكثيرون (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) الاسراء) فلما تدعو أي دعاء يجب أن تعرف أي اسم تحتاجه في دعئك فأدعو الغفور في التوبة وآخذ المقابل لكل اسم لأن الله تعالى له صفات جلال وصفات كمال فلا آخذ أحدها وأغفل عن الآخر فكما أدعو الرحمن يجب أن أتذكر صفة المنتقم فلا أعود للذنب ففي كل حالة علينا أن نأخذ الصفتين صفة الجلال وصفة الكمال وكما أنه تعالى الغفور الرحيم يجب أن أذكر أنه عذابه هو العذاب الأليم أيضاً فلا أعود للمعاصي والذنوب.
عطاء الألوهية وعطاء الربوبية الناس تستغرب في أيامنا كيف أن الله تعالى يوسّع على الكافرين والعاصين:
العطاء لأها الكفر الذي نذمّه نحن هو عطاء الألوهية محسوم بالخلق الذي ساوى فيه تعالى بين الجميع أما عطاء الربوبية فهو للمؤمن قدر الكافر ولكن شرطه السعي والعمل والاجتهاد. ولا يكون تعالى إلهاً وربّاً إذا منع رزقه عن العاصي لكن الحق أن عطاء الألوهية والربوبية سواء. الإنسان قد يستغني عن الطعام أياماً وعن الماء يومين ولا يستغني عن الهواء ولا ثانية واحدة ولهذا لم يملّك الله تعالى الهواء لأحد حتى لا يتحكم بغيره فيهلكهم لكن الطعام والشراب الذي هو رزق من الله تعالى قد يتحكم فيه أحدهم. أهل الغرب سعوا فأعطاهم الله تعالى عطاء الربوبية أما عطاء الألوهية فليس لهم فيه لأن نهاية عملهم هو في الدنيا وفقط وليس لهم في الآخرة شيء وهم في الدنيا أخذوا بقدر ما أعطوا وسعوا إليه لكن الآخرة والأبدية تنتظر المسلم. هم أخذوا من الدنيا بسعيهم وما نأخذه نحن في الآخرة عطاء الله تعالى لا يستطيع أن يصفه أحد أخذناه بصبرنا على المعصية.
قال تعالى (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) الاعراف) فما المقصود بـ (خالصة)؟
أي خالصة لهم وحدهم يوم القيامة لا يشاركهم فيها كافر لأن الكافر لم يصلي ولم يصوم ولم يحج ولم يعمل مقومات الاسلام في الدنيا مع العلم أنه بعدالة الإله الحق كان يمكننا نحن بسعينا أن نشاركهم في زينة الدنيا (كالتقدم العلمي والتكنولوجيا) فالكافر والعاصي استنفذ حظه من النعيم في الدنيا.
وإذا نظرنا لأوائل سورة البقرة لوجدنا أن الله تعالى ذكر صفات المؤمنين في ثلاث آيات وصفات الكافرين في آيتين وصفات المنافقين في ثلاثة عشر آية لأن المنافق حتى لو بدا في الدنيا أنه وصل إلى شيء ما لكنه في الآخرة هو في الدرك الأسفل من النار.
فلسفة أبو بكر الصديق
هذه الفلسفة تمثل أرقى أشكال الفلسفة الاسلامية. سُئل أبو بكر الصديق هل عرفت ربك؟ قال نعم عرفته فسأله السائل سؤالين: بم عرفت ربك؟ فأجاب أبو بكر: عرفت ربي بربي ولولا ربي ما عرفت ربي، فسأله السائل فقال: فكيف عرفته؟ قال العجز عن الإدراك ادراك والبحث في ذات الله إشراك. أي طالما عجزت عن أن تنفي وجوده تكون بذلك أثبت وجوده وكونك تتحدث في كُنه الإله فهو إشراك. إذا أخذنا هذين الآمرين وطبقناهما لشبابنا يصبح مجتمعنا خالياً من هذه الوساوس التي يسأل عنها الناس. وأول ما يدين العبد للألوهية والربوبية أن يعرف فضل ربه عليه أن عرّفني إياه.
وصفة نبوية:
هذه الوصفة النبوية تنبين لنا قيمة السلف الذين سألوا أسئلة فوجدوا إجابتها عند رسول الله r.
عن معاذ رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار فقال الرسول r: لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسّره الله تعالى عليه. تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. ثم قال r ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جُنّة والصدقة تُطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل ثم تلا (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) السجدة). ثم قال r ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت بلى يا رسول الله فقال r رأس الأمر الاسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد. فسكت معاذ فقال r ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت بلى يا رسول الله فأخذ بلسانه وقال r كفّ عليك هذا فقلت وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال r ثكلتك أمك وهل يُكبّ الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم.
هذه وصفة كاملة من الرسول r تدخلنا الجنة وتبعدنا عن النار بإذن الله تعالى وقد قال تعالى (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) آل عمران). وهذه الوصفة اشتملت على أقسام الأول عقيدة وعبادة وما ذكره r من الشهادة والصلاة والزكاة والصيام والحد هي أركان العقيدة وكُنهها ونلاحظ أن الرسول r في الجزء الأول من الوصفة لم يذكر شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله وإنما ذكر فقط توحيد الله وذلك لأن الرسول r علم أن معاذ طالما جاء يسأله هو عن الأمر فهو يعرف دوره r وليس بحاجة لأن يذكر شهادة أن محمداً رسول الله فيها والثانية عبادات ومعاملات فقال r الصوم جُنة أي صوم غير رمضان وهذا مثل توجيهه r لمعشر الشباب" يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم" وقال r الصوم ولم يقل الصيام لأن الصوم يفيد الصوم عن الطعام والشهوات وغيرها وفي الصدقة قال في حديث آخر الصدقة برهان ثم صلاة الرجل في جوف الليل مصداقاً لقوله تعالى (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) السجدة) والثالثة تقيم أو لا تقيم فقال رأس الأمر الاسلام والمقصود هنا إسلام الوجه لله تعالى وعمود الدين الصلاة كما في الحديث الصلاة عماد الدين وذروة سنامه الجهاد ولم يحدد الجهاد في سبيل الله لأن الجهاد درجات أولها جهاد النفس وآخرها الجهاد في سبيل الله في الحرب والآخرة تضبط اللسان.
يسأل بعض الناس لماذا ندعو ولا يستجاب لنا فهل هناك آداب للدعاء وشروط؟ وهل الدعاء كافي أم أنه يجب أن أعمل ما عليّ أولاً؟
الدعاء غير كافي ويجب أن أعمل بالأسباب التي أعطاني إياها ربي فتوجهت إلى الإله (اللهم) كأني قلت (يا رب) فلو قلت يا رب شيء ولو قلت يا الله شيء آخر. وكل دعاء المسلمين المؤمنين المتقين المحسنين مستجاب وإن بدا عدم تنفيذه بالدنيا وهناك فرق بين الاستجابة والتلبية كما سنوضح في الحلقة القادمة إن شاء الله.