في ساعة مبكرة من صباح يوم الثلاثاء 14 مارس الجاري، استعدت الوحدات العسكرية الإسرائيلية الخاصة، جيدا في معسكرها بالقرب من مقام النبي موسى التاريخي، شمال أريحا لما سيجرى من حصار لاحمد سعدات، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، نزيل سجن أريحا، ورفاقه. وهو الحدث الذي شغل العالم، في بث مباشر طوال نحو 10 ساعات، انتهى باعتقال سعدات ورفاقه، وتدمير السجن الذي يقع ضمن ما يسمى المقاطعة. ورغم أن الاهتمام الإعلامي بما حدث في ذلك اليوم تراجع، إلا أن الأمر مختلف بالنسبة لاحد حراس السجن الذي يقضي نهاراته بين الأنقاض، يجمع مخلفات كتب واوراق وصور وذكريات، يحاول من خلالها ترميم الذاكرة.
الملازم أول إبراهيم علي مهاوش (42 عاما)، يمضي وقته بين أنقاض الغرف التي كان يحتجز فيها سعدات ورفاقه، وينام في غرفة آيلة للسقوط، تبقت في مبنى سجن أريحا المهدم، وكأنه يأمل أن يعود الزمن كما كان قبل العملية العسكرية، ليجلس مع أصدقائه السجناء الذين كان يوفر لهم ما يريدون من كتب وأغراض أخرى.
وجمع مهاوش من بين أنقاض السجن المدمر، ومن المكان الذي احتجز فيه سعدات منذ شهر مايو 2002، بقايا مكتبته الصغيرة وحاجياته، بينما، مازالت بقايا كتب أخرى بين الأنقاض، تظهر منها ورقة هنا، وغلاف هناك.
وقال مهاوش إنه سيسلم بقايا الكتب، وما سيعثر عليه من أسطوانات وصور، كانت موجودة في الزنزانة، لعائلات سعدات ورفاقه. وعرض مهاوش الكتب علينا، اثناء زيارتنا له، وهو يقول بأسى: «هذه أمانة يجب إيصالها لأصحابها».وأضاف الحارس شارحاً: «الرفيق سعدات، كان قارئا من الطراز الأول، يقضي معظم وقته مع الكتب، الله يساهل عليك يا عمي أبوغسان». و«أبوغسان» هي كنية سعدات، الذي أسمى ابنه البكر تيمناً بالروائي الفلسطيني، غسان كنفاني، الذي اغتيل في بيروت عام 1973
شعر وروايات وأخبرنا مهاوش ان سعدات كان متابعاً جيداً، اضافة إلى انه متنوع الاهتمامات الثقافية، وأطلعنا على الكتب التي جمعها ممزقة، واثار سقوط الجدران واضحة عليها، وهي تتنوع بين التاريخ الفلسطيني، والأدب من شعر وروايات، وبينها ديوان شعر بعنوان «الرحيل» للشاعر الفلسطيني مطلق عبد الخالق، الذي يتفق مؤرخو الأدب بأنه كان شاعرا واعدا، ولكنه توفي شابا في حادث، ابان الانتداب البريطاني على فلسطين، ليمر كالشهاب في تاريخ الأدب الفلسطيني. وهو شاعر له اهتمامات وجودية وفلسفية، غير مشهور حتى في الأوساط الثقافية. وحرص سعدات، على قراءة شاعر يكاد يكون مغمورا كعبد الخالق، يعكس اهتماماته الأدبية التي طالت أيضا شعراء وروائيين شبانا، ما زالت بقايا كتبهم بين ركام زنزانته. وقد عثر على روايات لسحر خليفة، ورواية «بقايا صور» للروائي السوري حنا مينة، الذي يبدي جيل من اليساريين العرب، أحدهم سعدات، اهتماما كلاسيكيا بكتبه.
وبين الركام يمكن بصعوبة رؤية جزء من غلاف لمذكرات الموسيقي الفلسطيني واصف جوهرية التي تحمل اسم «القدس العثمانية في المذكرات الجوهرية»، وهي مذكرات هامة لو صدرت في دولة مستقرة، غير فلسطين، لكانت حدثا ثقافيا بارزا، فهي تاريخ ليوميات حداثة إحدى اشهر المدن في الدنيا.وتعكس بقايا كتب كانت ضمن مجموعة سعدات، اهتمامه الطبيعي بالصراع العربي ـ الإسرائيلي، ومأساة اللاجئين الفلسطينيين، والحنين للمدن والبلدات التي هجروا منها، مثل كتابين عن مدينتي «صفد» و«اللد» اللتين تقعان الان ضمن حدود إسرائيل. والكتاب عن مدينة صفد بقي منه الغلاف المعنون «صفد في عهد الانتداب البريطاني 1917ـ 1948، دراسة اجتماعية وسياسية» للباحث مصطفى العباسي، أما الكتاب عن اللد، فعنوانه غير واضح. ويؤشر وجود كتاب «الضحك والنسيان» للروائي التشيكي ميلان كونديرا، على اهتمام سعدات بالأدب العالمي.
أميركان وسياسة وحقوق إنسان وتوجد أيضا بقايا لما يمكن وضعه ضمن خانة (أدب السجون)، مثل مذكرات الأسيرة الفلسطينية السابقة عائشة عودة التي تحمل عنوان «أحلام بالحرية» وغيرها عنوانه «دائرة الألم» بتوقيع الأسير سامر عصام.
وظهرت بين الكتب أدبيات من إصدار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، يعتقد بان سعدات ساهم في تحريرها، من بينها نشرة فصلية بعنوان «الحياة الجديدة»، ونشرات طلابية للجبهة الشعبية في «جامعة النجاح الوطنية» بمدينة نابلس، تتضمن مقالات تطالب السلطة الفلسطينية بإطلاق سراح سعدات. وتتناثر بين الركام أوراق من نشرات عن حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أصدرتها مؤسسات حقوقية باللغتين العربية والإنجليزية. ويتضح مما خلفه التدمير الإسرائيلي في المكان، أن هناك ما جمع بين سعدات، وسجانيه من الأميركيين والبريطانيين الذين غادروا السجن قبل الهجوم الإسرائيلي عليه بخمس دقائق، وفقا لشهادة الشرطي شادي صوان. فعلى بعد نحو 50 مترا من الغرفة التي كان سعدات معتقلا فيها، يوجد ركام البيت المتنقل الذي كان يقيم فيه الحراس البريطانيون والأميركيون، ويظهر من بين هذا الركام أهم متعلقات الحراس، وهي روايات متنوعة المواضيع، بالإضافة إلى نشرات لمنظمة حقوق إنسان فلسطينية، شبيهة بتلك التي كانت بين مقتنيات سعدات.
في ذم المرحلة وتتناثر بين الأنقاض، أوراق كتب عليها سعدات وآخرين من رفاقه، كما يبدو، خواطر ومذكرات، لم يسلم منها الكثير، واختلطت مع وثائق إدارة السجن التي تطايرت هي الأخرى في المكان.
وقال مهاوش والحارس شادي صوان والجندي محمد نزال، انهم يجمعون ما يمكن أن يكون مفيدا لعائلات المعتقلين من متعلقات، ومن بينها كتب دراسية وملفات أكاديمية خاصة بالمعتقل باسل الأسمر، الذي كان له دور رئيسي في اغتيال وزير السياحة الإسرائيلي الأسبق رحبعام زئيفي، في فندق حياة ريجنسي بالقدس الغربية في أكتوبر 2001، وهو الاغتيال الذي خلق الأزمة التي استمرت عدة سنوات وشهدت أحد فصولها الأخيرة بالهجوم على سجن أريحا.
وكان الأسمر يدرس الكومبيوتر في جامعة القدس المفتوحة، ومن بين متعلقاته التي يحتفظ بها مهاوش قميص بدون أكمام (تي شيرت) عليه صورة الشهيد رائد نزال قائد كتائب الشهيد أبوعلي مصطفى، الجناح العسكري للجبهة كتب فوقها «لن أكون عبدا للمرحلة».
وبقي من متعلقات مجدي الريماوي الذي شكل الخلية التي اغتالت زئيفي (تي شيرت) أيضا، صممه بنفسه، وخط عليه بيده رسوما كفاحية، بالإضافة إلى اسم الجناح العسكري للجبهة الشعبية المعروف بكتائب الشهيد أبوعلي مصطفى. ومهاوش الذي اعتبر رسميا حارسا على السجناء السياسيين، كان عمليا صديقا لهم، يلبي طلباتهم من خارج السجن، وقد دلنا على ما تبقى من أقفاص، كان حمدي قرعان الذي أطلق ثلاث رصاصات قتلت زئيفي، يربي فيها طيور الكناري. وقال مهاوش ان قرعان كان يقول له دائما بأنه سيفتح الأقفاص ليمنح طيور الكناري الحرية في الوقت المناسب، ولكن هذا «الوقت المناسب» لم يأت أبدا، فماتت العصافير تحت الأنقاض.
معاهدة حب اعتبر الهجوم الإسرائيلي على سجن أريحا، تمزيقا للاتفاقية التي أبرمتها إسرائيل مع رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات، برعاية أميركية ـ بريطانية، والتي بموجبها تم فك الحصار الذي كان مفروضا على عرفات في مقره بمدينة رام الله، ووضع احمد سعدات ورفاقه في سجن أريحا، لكن هذا الاتفاق بالنسبة لسجين سياسي مجهول، كان تمزيقا لمعاهدة حب، جمعته بحبيبته. فبينما كنا نجول فوق أنقاض السجن، عثرنا على «معاهدة» على شكل برواز، بقماش مخملي احمر، مزين بالورود والرسوم الملونة، أطلق عليها كاتبيها «معاهدة حب». ولم يتمكن مهاوش ورفاقه الذين سألناهم، من تحديد هوية السجين العاشق، صاحب هذه المعاهدة الفريدة من نوعها، التي لم تسلم من الدمار. وتقول المعاهدة انه في يوم الجمعة بتاريخ 7-5- 1999 وقعت معاهدة الحب بين كل من m و k وتنص على ما يلي «الاعتراف المتبادل بشعور كل منا للآخر، إيجاد مكان هام داخل قلب وعقل كل منا، اتحاد قلبينا وروحينا، الحب والوفاق، عدم الفراق».
والتذييل جاء على النحو التالي: «وقعت منا نحن الحبيبين»، أما مدة صلاحية هذه المعاهدة فهي إلى الأبد، كما ذكر الحبيبان. ومرجح ان احد الحبيبين انتقل من سجن أريحا بعد تدميره، إلى سجن إسرائيلي، ولكن بدون المعاهدة التي غطاها الركام، بعد هدم جدران الغرفة التي كان صاحبها السجين يقيم بها. وقال مهاوش «انظر كم كان هؤلاء حساسين، لديهم عواطف تملأ الدنيا كلها». ولم يكن الحب أمرا غريبا على المعتقلين السياسيين في سجن أريحا، ففي داخل السجن عقد حمدي قرعان، الشاب الهادئ الذي قتل زئيفي، قرانه على حبيبته.
ولا يمكن إغفال علاقة المكان، بإحدى اشهر قصص الحب في التاريخ، فبالقرب من السجن، توجد إطلال القصر الشتوي لهيروديون، حيث كانت تلتقي كليوبترا بمارك انطوني، في تلك المنطقة التي تشهد على اقدم حضارة مكتشفة، نقبت عنها امرأة عشقت أريحا التي يطلق عليها مدينة القمر، ولكنه الان قمر حزين.