برز خلال الشهور الأخيرة ما يشير إلى تصعيد الهجوم على القدر الضئيل من الحريات المتوافر في مجتمعنا؛ وهو ما يترجم عمليا في التشهير بالصحافة الحرة، وإحكام الحصار على الحركات العمالية المتصاعدة وعلى الأشكال الأخرى من الاحتجاج، وسن القوانين التي تشوه إرادة المواطنين، والسعي إلى تقديم آخرين أمام المحاكم العسكرية، وضرب الحق في التنظيم، وتحويل شوارع المدن إلى ثكنات عسكرية، الخ.
وإذا كانت الأمور المذكورة أعلاه متداخلة ومترابطة نظرا لأن الحرية لا تتجزأ، فإننا نؤكد على أن وجود مجتمع مدني قوي يساعد الناس على تنظيم أنفسها حتى تطالب بحقوقها المشروعة في العدالة الاجتماعية، والمساواة، والعيش بكرامة، يعد سندا أساسيا لضمان حرية التعبير؛ والعكس صحيح، فكلمة الحق تقدم أهم دعم لهذا المجتمع المدني الذي طالما تم إقصائه وتهميشه.
كما تقع المنظمات غير الحكومية في قلب المجتمع المدني، وتعد أحد روافده ذات وزن لا يستهان به، خاصة مع ضعف الحياة السياسية بصفة عامة بسبب القيود المفروضة على الأحزاب، وتقاعس البعض منها عن الالتحام بالقواعد الجماهيرية، واسئثار حزب واحد بلعبة التحكم في مقدرات هذا الوطن.
وفي هذا الإطار، تخرج علينا الجرائد يوميا بأخبار تشير إلى الانقضاض على البقية الباقية من تلك المنظمات غير الحكومية، كما تتوالى عمليات الاستفزاز والتضييق بوتائر متسارعة؛ فمن رفض تسجيل هذه المنظمات "لاعتراض الجهات الأمنية" (كما حدث في حالة المنظمة التي أشرف بالانتماء إليها، وهي مؤسسة المرأة الجديدة)، وإطلاق التصريحات التي تعد بمثابة تشهير بها وطعن في وطنيتها، أو في أخلاقياتها، أو في نزاهتها وذممها المالية، وصولا إلى تطويق المقر الرئيسي لدار الخدمات النقابية والعمالية بعربات الأمن المركزي والجنود الذين يحملون الدروع، مما يذكرنا بحرب حقيقية. وفي الوقت نفسه، هناك استعدادات تجري في الكواليس لفرض مزيد من القيود على حرية التنظيم من خلال إدخال تعديلات أساسية على القانون المنظم لنشاط الجمعيات الأهلية والمؤسسات الخاصة. واستكمالا لديكور الديمقراطية، يتم "التشاور" مع عدد من الجمعيات التي تنحصر مطالبها من القانون الجديد في تخفيض فواتير الكهرباء، وإعفاءات ضريبية أخرى؛ بينما تستبعد المنظمات الدفاعية والحقوقية التي يتمثل مطلبها الأساسي في وقف التدخلات الإدارية والأمنية، مما يسمح لمنظمات المجتمع المدني، والمنظمات غير الحكومية بصفة خاصة، القيام بدورها والمساهمة في نهوض هذا المجتمع الذي يعاني الحصار منذ أكثر من 50 عاما.
هذا، في حين نستمع إلى خطاب غريب تماما من بعض المسئولين يطالب بمشاركة المجتمع المدني؛ والغريب هنا هو عدم تطابق القول مع الفعل؛ بل التضارب الصريح بينهما؛ مما يجعلنا نعتقد أن هذا الخطاب الأخير هو مجرد استهلاك لفظي يستهدف تبييض وجه الحكومة وإضفاء الطابع الديمقراطي عليها.
أرجو أن أتوجه من خلالكم إلى جميع أصحاب الفكر الشريف كي يدافعوا عن المجتمع المدني المصري الذي لن يكون بدون وجوده القوي أي أمل في الإصلاح، أو التقدم، أو النمو.